كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حيناً. قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين. الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد.. راية العقيدة والتوحيد.
وهو مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب. وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام. في ظل الله. بالقرب من بيت الله. وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة. في أنسب مكان، وأنست جو، وأنسب زمان..
فذلك إذ يقول الله سبحانه: {ليشهدوا منافع لهم}.. كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته.
وذلك بعض ما أراده الله بالحج يوم أن فرضه على المسلمين، وأمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن به في الناس.
ويمضي السياق يشير إلى بعض مناسك الحج وشعائره وأهدافها:
{ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}..
وهذه كناية عن نحر الذبائح في أيام العيد وأيام التشريق الثلاثة بعده. والقرآن يقدم ذكر اسم الله المصاحب لنحر الذبائح، لأن الجو جو عبادة ولأن المقصود من النحر هو التقرب إلى الله. ومن ثم فإن أظهر ما يبرز في عملية النحر هو ذكر اسم الله على الذبيحة. وكأنما هو الهدف المقصود من النحر لا النحر ذاته..
والنحر ذكرى لفداء إسماعيل عليه السلام فهو ذكرى لآية من آيات الله وطاعة من طاعات عبديه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فوق ما هو صدقة وقربى لله بإطعام الفقراء. وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم والمعز.
{فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}..
والأمر بالأكل من الذبيحة يوم النحر هو أمر للإباحة أو الاستحباب. أما الأمر بإطعام البائس الفقير منها فهو أمر للوجوب. ولعل المقصود من أكل صاحبها منها أن يشعر الفقراء أنها طيبة كريمة.
وبالنحر ينتهي الإحرام فيحل للحاج حلق شعره أو تقصيره، ونتف شعر الإبط، وقص الأظافر والاستحمام. مما كان ممنوعاً عليه في فترة الإحرام، وهو الذي يقول عنه: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} التي نذروها من الذبائح غير الهدي الذي هو من أركان الحج. {وليطوّفوا بالبيت العتيق}.. طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفات. وبه تنتهي شعائر الحج. وهو غير طواف الوداع.
والبيت العتيق هو المسجد الحرام أعفاه الله فلم يغلب عليه جبار. وأعفاه الله من البلى والدثور، فما يزال معموراً منذ إبراهيم عليه السلام ولن يزال.
تلك قصة بناء البيت الحرام، وذلك أساسه الذي قام عليه.. بيت أمر الله خليله إبراهيم عليه السلام بإقامته على التوحيد، وتطهيره من الشرك، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه. ليذكروا اسم الله لا أسماء الآلهة المدعاة على ما رزقهم من بهمية الأنعام.
ويأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير على اسم الله دون سواه.. فهو بيت حرام حرمات الله فيه مصونه وأولها عقيدة التوحيد، وفتح أبوابه للطائفين والقائمين والركع السجود إلى جانب حرمة الدماء، وحرمة العهود والمواثيق. وحرمة الهدنة والسلام.
{ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}..
وتعظيم حرمات الله يتبعه التحرج من المساس بها. وذلك خير عند الله. خير في عالم الضمير والمشاعر، وخير في عالم الحياة والواقع. فالضمير الذي يتحرج هو الضمير الذي يتطهر والحياة التي ترعى فيها حرمات الله هي الحياة التي يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء، ويجدون فيها متابة أمن، وواحة سلام، ومنطقة اطمئنان..
ولما كان المشركون يحرمون بعض الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلون لها حرمة، وهي ليست من حرمات الله بينما هم يعتدون على حرمات الله فإن النص يتحدث عن حل الأنعام إلا ما حرم الله منها كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به: {وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم}.. وذلك كي لا تكون هنالك حرمات إلا لله؛ وألا يشرع أحد إلا بإذن الله؛ ولا يحكم إلا بشريعة الله.
وبمناسبة حل الأنعام يأمر باجتناب الرجس من الأوثان. وقد كان المشركون يذبحون عليها وهي رجس والرجس دنس النفس والشرك بالله دنس يصيب الضمير ويلوث القلوب، ويشوب نقاءها وطهارتها كما تشوب النجاسة الثوب والمكان.
ولأن الشرك افتراء على الله وزور، فإنه يحذر من قول الزور كافة: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور}..
ويغلظ النص من جريمة قول الزور إذ يقرنها إلى الشرك.. وهكذا روى الإمام أحمد بإسناده عن فاتك الأسدي قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم الصبح. فلما انصرف قام قائماً فقال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل» ثم تلا هذه الآية..
إنما يريد الله من الناس أن يميلوا عن الشرك كله، وأن يجتنبوا الزور كله، وأن يستقيموا على التوحيد الصادق الخالص: {حنفاء لله غير مشركين به}.. ثم يرسم النص مشهداً عنيفاً يصور حال من تزل قدماه عن أفق التوحيد، فيهوي إلى درك الشرك. فإذا هو ضائع ذاهب بدداً كأن لم يكن من قبل أبداً:
{ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}.
إنه مشهد الهويّ من شاهق {فكأنما خر من السماء}. وفي مثل لمح البصر يتمزق {فتخطفه الطير} أو تقذف به الريح بعيداً بعيداً عن الأنظار: {أو تهوي به الريح في مكان سحيق} في هوة ليس لها قرار!
والملحوظ هو سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ بالفاء وفي المنظر بسرعة الاختفاء.. على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير.
وهي صورة صادقة لحال من يشرك بالله، فيهوي من أفق الإيمان السامق إلى حيث الفناء والانطواء. إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن إليها. قاعدة التوحيد. ويفقد المستقر الآمن الذي يثوب إليه؛ فتتخطفه الأهواء تخطف الجوارح، وتتفاذفه الأوهام تقاذف الرياح. وهو لا يمسك بالعروة الوثقى، ولا يستقر على القاعدة الثابتة، التي تربطه بهذا الوجود الذي يعيش فيه.
ثم يعود السياق من تعظيم حرمات الله باتقائها والتحرج من المساس بها.. إلى تعظيم شعائر الله وهي ذبائح الحج باستسمانها وغلاء أثمانها:
{ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق}.
ويربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب؛ إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره. وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب البيت وطاعته. وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم عليه السلام وما تلاه. وهي ذكريات الطاعة والإنابة، والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة. فهي والدعاء والصلاة سواء.
وهذه الأنعام التي تتخذ هدياً ينحر في نهاية أيام الإحرام يجوز لصاحبها الانتفاع بها. إن كان في حاجة إليها يركبها، أو في حاجة إلى ألبانها يشربها، حتى تبلغ محلها وهو البيت العتيق. ثم تنحر هناك ليأكل منها. ويطعم البائس الفقير.
وقد كان المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يغالون في الهدي، يختارونه سميناً غالي الثمن، يعلنون بها عن تعظيمهم لشعائر الله، مدفوعين بتقوى الله. روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أهدي عمر نجيباً فأعطى بها ثلاث مائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيباً، فأعطيت بها ثلاث مائة دينار. أفأبيعها واشتري بثمنها بدناً؟ قال: «لا. انحرها إياها».
والناقة النجيب التي جاءت هدية لعمر رضي الله عنه قومت بثلاث مائة دينار لم يكن عمر رضي الله عنه يريد أن يضنَّ بقيمتها، بل كان يريد أن يبيعها فيشتري بها نوقاً أو بقراً للذبح. فشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحي بالنجيب ذاتها لنفاستها وعظم قيمتها، ولا يستبدل بها نوقاً كثيرة، قد تعطي لحماً أكثر، ولكنها من ناحية القيمة الشعورية أقل.
والقيمة الشعورية مقصودة {فإنها من تقوى القلوب}. وهذا هو المعنى الذي لحظه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لعمر رضي الله عنه- «انحرها إياها» هي بذاتها لا سواها!
هذه الذبائح يذكر القرآن الكريم أنها شعيرة معروفة في شتى الأمم؛ إنما يوجهها الإسلام وجهتها الصحيحة حين يتوجه بها إلى الله وحده دون سواه:
{ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}..
والإسلام يوحد المشاعر والاتجاهات، ويتوجه بها كلها إلى الله. ومن ثم يعنى بتوجيه الشعور والعمل، والنشاط والعبادة، والحركة والعادة؛ إلى تلك الوجهة الواحدة. وبذلك تصطبغ الحياة كلها بصبغة العقيدة.
وعلى هذا الأساس حرم من الذبائح ما أهل لغير الله به؛ وحتم ذكر اسم الله عليها، حتى ليجعل ذكر اسم الله هو الغرض البارز، وكأنما تذبح الذبيحة بقصد ذكر اسم الله. {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}..
ويعقب بتقرير الوحدانية: {فإلهكم إله واحد}.. وبالأمر بالإسلام له وحده: {فله أسلموا}.. وليس هو إسلام الإجبار والاضطرار، إنما هو إسلام التسليم والاطمئنان: {وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} فبمجرد ذكر اسم الله يحرك الوجل في ضمائرهم ومشاعرهم. {والصابرين على ما أصابهم} فلا اعتراض لهم على قضاء الله فيهم. {والمقيمي الصلاة} فهم يعبدون الله حق عبادته. {ومما رزقناهم ينفقون} فهم لا يضنون على الله بما في أيديهم..
وهكذا يربط بين العقيدة والشعائر. فهي منبثقة من العقيدة وقائمة عليها. والشعائر تعبير عن هذه العقيدة ورمز لها. والمهم أن تصطبغ الحياة كلها ويصطبغ نشاطها بتلك الصبغة، فتتوحد الطاقة ويتوحد الاتجاه، ولا تتمزق النفس الإنسانية في شتى الاتجاهات.
ويستطرد السياق في تقرير هذا المعنى وتوكيده وهو يبين شعائر الحج بنحر البدن:
{والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين}..
ويخص البدن بالذكر لأنها أعظم الهدي، فيقرر أن الله أراد بها الخير لهم، فجعل فيها خيراً وهي حية تركب وتحلب، وهي ذبيحة تهدى وتطعم فجزاء ما جعلها الله خيراً لهم أن يذكروا اسم الله عليها ويتوجهوا بها إليه وهي تهيأ للنحر بصف أقدامها: {فاذكروا اسم الله عليها صواف}.
والإبل تنحر قائمة على ثلاث معقولة الرجل الرابعة {فإذا وجبت جنوبها} واطمأنت على الأرض بموتها أكل منها أصحابها استحباباً، وأطعموا منها الفقير القانع الذي لا يسأل والفقير المعتر الذي يتعرض للسؤال. فلهذا سخرها الله للناس ليشكروه على ما قدر لهم فيها من الخير حية وذبيحة: {كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون}..
وهم حين يؤمرون بنحرها باسم الله {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} فإن اللحوم والدماء لا تصل إلى الله سبحانه. إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجهاتها لا كما كان مشركو قريش يلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحيات على طريقة الشرك المنحرفة الغليظة!
{كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم}.. فقد هداكم إلى توحيده والاتجاه إليه وإدراك حقيقة الصلة بين الرب والعباد، وحقيقة الصلة بين العمل والاتجاه.
{وبشر المحسنين}.. الذين يحسنون التصور، ويحسنون الشعور، ويحسنون العبادة، ويحسنون الصلة بالله في كل نشاط الحياة.
وهكذا لا يخطو المسلم في حياته خطوة، ولا يتحرك في ليله أو نهاره حركة، إلا وهو ينظر فيها إلى الله. ويجيش قلبه فيها بتقواه، ويتطلع فيها إلى وجهه ورضاه. فإذا الحياة كلها عبادة تتحقق بها إرادة الله من خلق العباد، وتصلح بها الحياة في الأرض وهي موصولة السبب بالسماء.
تلك الشعائر والعبادات لابد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة، وعلى قداسة المعابد وحرمة الشعائر، وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة.
ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين، بعد أن بلغ أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله، ووعدهم النصر والتمكين، على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بينها لهم فيما يلي من الآيات:
{إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}..
إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال؛ والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان.
والشر جامح والباطل مسلح.
وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع؛ ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له. فلابد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم.